محمد بوضياف، فرصة مغتالة لأنسنة السلطة
السادس عشر
من جانفي 1992، يهبط بوضياف في مطار الجزائر. "أصحاب القرار" (كما سيطلق
عليهم لاحقا)، أصحاب القرار في تلك الفترة كانوا هناك. خالد نزار، الرجل القوي،
وزير الدفاع، الموجود اليوم في الخارج، في حالة فرار، سيد أحمد غزالي، رئيس
الحكومة، الذي سيصرح فيما بعد، نحن "حركى النظام" والعديد من الآخرين
الذين رأيناهم كثيرا.
كان هؤلاء
الرجال الذين عاقبتهم فئة من الجزائريين عن طريق صناديق الاقتراع، سواء بصفتهم
أصحاب قرار أو منفذين، هم من استقبلوا محمد بوضياف، رجل نوفمبر 1954.
السادس عشر
من جانفي، كان يوم خميس، اليوم الذي يستولي الفريق الذي يصنع اسبوعية
"خميس الجزائر" (Jeudi
d’Algérie) الرائعة التي لم تعمر طويلا، على يومية
الجزائر (Quotidien d’Algérie). وفي ذلك اليوم كان
بإمكاننا أن نقرأ، حوارا مع محمد بوضياف أجراه مصطفى شلفي، في الرابع جانفي 1992.
كان الرجل يعيش آنذاك حياة هادئة في القنيطرة، بالمغرب، منشغلا بتسيير مصنعه
الصغير للآجر.
كنت أتابع
وصول بوضياف إلى المطار في ذلك السادس عشر من جانفي 1992 دون أن أتوقف عن التفكير
في الحوار الذي أجراه مصطفى شلفي. شعرت بالدوار. هذا الحوار قطعة من التاريخ، يشكل
نوع من المقدمة المأساوية لما سيحدث للرجل والبلد. كان بوضياف يقول الأشياء دون لف
أو دوران: كان ضد وقف الانتخابات التشريعية، كان يعتقد بأن ذلك سيكون أسوأ من
مواصلة المسار الانتخابي وكانت حججه متينة. والآن، وفي تحد صريح لتحليله الخاص، ها
هو بوضياف يصل إلى الجزائر ويلقي خطابه الأول الذي يقول فيه "هذه يدي أمدها
للجميع".
لسماح الحصة المخصصة لمحمد بوضياف في راديو كورونا. انقر هنا |
سؤال بقي
يؤرقني: لماذا قبل بوضياف أن يسير عكس تحليله الشخصي للوضع؟ لماذا أقحم نفسه في
هذه المتاعب رغم أنه كان جليا بالنسبة للكثير من الجزائريين بأن الذين لجأوا إليه
لم يكن في نيتهم بكل تأكيد منحه صكا على بياض، ولم يكونوا ليسمحوا له بزعزعة
النظام القائم؟
يطرح البعض
فكرة أن بوضياف باستجابته لنداء الجيش يكون قد أخذ بثأره من التاريخ. لا تبدو لي
هذه الفكرة مقنعة. بوضياف ورفاقه دخلوا التاريخ منذ نوفمبر 1954. من المؤكد
أنهم شعروا بمرارة وهم يرون الأفكار الكبرى للثورة تتعرض للخيانة، لكن هؤلاء
الرجال لم يكونوا سياسويين، أو انتهازيين، وهم أبعد عن أن يكونوا انتقاميين.
بالطبع كان
هناك التفسير المعروف، الذي يتعلق بالضغط الودي الذي مارسه الأصدقاء، ومن بينهم
علي هارون أو الراحل أبو بكر بلقايد. بوضياف الذي كان بعيدا عن حقائق الواقع
اليومي للبلد يكون قد تأثر بالصورة التي رسمها له مبعوثو السلطة حول المخاطر
الكبرى والأخطار التي تواجهها البلاد.
بوضياف، رجل
الفعل، الوطني، والثوري، يكون قد قدر بأن الشعور بالمسؤولية يحتم عليه أن يسلك
طريقا عكس ذلك الذي يرسمه تحليله الشخصي للوضع. لقد وافق على تولي رئاسة المجلس
الأعلى للدولة، في وقت اكتملت فيه عناصر الدوامة المؤدية إلى العشرية
السوداء.
أعتقد أن
طموح مؤسس جبهة التحرير الوطني لا يمكن أن يقتصر على تفادي وصول الجبهة الإسلامية
للإنقاذ إلى السلطة؛ كما أن هذا الرجل، الذي سجنه وطارده النظام الذي تشكل
بعد الاستقلال وقاد البلاد إلى طريق مسدود، لا يمكن أن يكون الشخص الذي يقبل
بمغادرة منفاه الذي مكث فيه ثلاثين سنة من أجل إنقاذ هذا النظام بالذات.
سبعة أشهر
بعد ذلك، كنت ضمن مجموعة من الصحافيين الذين تمت دعوتهم إلى مقر التلفزيون لمشاهدة
اعترافات بومعرافي. لقد كنا بطريقة ما نلعب دور فئران تجارب، وعلى رد فعلنا كان
يتوقف قرار بث هذه الاعترافات من عدمه. نقلت أقوال بومعرافي حرفيا في جريدة يومية
الجزائر (le Quotidien d’Algérie). كانت اعترافات غريبة، تختلف
كثيرا عما سنراه لاحقا طيلة تلك العشرية المرعبة. لم يكن استنطاقا بالمعنى الحقيقي
للكلمة. من كان يطرح الأسئلة بدا وكأنه يتحدث إلى رفيق. في لحظة اعترف بومعرافي بهدوء:
"طاحتلي أوكازيون قتلتو، نورمال" (سنحت لي فرصة فقتلته، عادي). قالها
بنبرة مرحة. أمر لا يطاق.
على
المستويين الرسمي والقضائي، حفظت القضية: فعل معزول. في البلاد، قلة من صدقوا ذلك،
واليوم أيضا هم أقل. بالنسبة لي شعرت بمقت شديد تجاه ذلك الربع ساعة من الشهرة الذي
ناله بومعرافي. ففعله، سواء كان معزولا أو لم يكن كذلك، أجهض فرصة خيرة،
إمكانية حقيقية للخروج من المأزق. لقد أنهى بوحشية المواجهة التي بدأها محمد
بوضياف مع النظام، مواجهة صعبة والنصر فيها غير أكيد. فمجرد وجود بوضياف يحدث
ارتباكا. فلا يمكن للنظام أن يواجهه بحجة التاريخ. فبوضياف، ودون أدنى شك، هو رجل
أول نوفمبر، رغم محاولات محوه من الذاكرة.
في أقل من
ستة أشهر، دون أن يكون لديه فريق بالمعنى الحقيقي، أو حكومة تولى تشكيلها، وبدون
شبكات تدعمه، كان يستحيل على بوضياف أن يخوض المعركة التي كان عازما عليها من أجل
الجزائر وضد النظام. مشروعه لإنشاء تجمع وطني واسع (التجمع الشعبي الوطني RPN)، الذي أراد له أن يتحول إلى قاعدة سياسية
وانتخابية لسلطته، تم القضاء عليه في مرحلته الجنينية، وكفاحه ضد الفساد منع من
الذهاب إلى أبعد من تلك الخطوات الأولية التي خطاها.
ستة أشهر،
فترة قصيرة. وعندما نتولى الرئاسة، في نظام مغلق، فإننا نكون إلى حد ما رهائن
المعلومات التي تقدمها أجهزة هذا النظام. لكن بوضياف كان يملك بوضوح إمكانيات
الخروج من تلك العزلة، والذهاب للقاء البلد. لقد كان قادرا على إحداث الثورة التي
طالما انتظرها الجزائريون. ثورة ليست عملية تقليدية للاستلاء على السلطة، بل
تستهدف أنسنة السلطة. وأنسنتها تعني جعلها مسؤولة، وأن تفرض عليها تقديم كشف
الحساب للمواطنين، وأن تخضع للقانون. اغتيال بوضياف قتل هذه الفرصة الخيرة. أبو
بكر بلقايد كان يقول إن الفيس يمثل إجابة خاطئة على سؤال صحيح. الإجابة الصحيحة لم
تأت بعد، لقد تكرس الفساد والحڨرة أكثر. هذه الإجابة الصحيحة هي بالتأكيد، حسب
رأيي، موجودة في حراك 22 فيفري 2019 الذي يعتبر بوضياف، رجل نوفمبر، أحد مصادر
إلهامه الأكثر عمقا.
رحم الله
الشهيد محمد بوضياف.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire