ـصورة فيسبوك- حي بومعزة بين ليفيي وواد أوشايح به |
كنت في الخامسة سنة 1962، وكان بن بلة في السلطة. كان الشبان في الخارج يغنون "دولة المجاهدين". من الفترة السابقة احتفظ بصور عابرة لكنها مؤثرة. جنود فرنسيون مسلحون يدخلون البيت، يتقمصون دور الرجال الطيبين ويعطوننا حلوى كنا نرفضها بشدة. كان ذلك فعل شبه محرم دينيا، لا تآخي مع جنود الاستعمار. في إحدى المرات وقع أخي وابن خالي تحت إغراء الشكولاتة. توقعت أن يتولى السوط، الذي كان معلقا على الحائط كإنذار دائم، مهمة غسل هذا العار، لكن الذي حدث أنهما نالا عقابا من نوع آخر. جلب خالي علبة "ڨوفريط" تحتوي على مائتي قطعة وأمرهما بأكلها كاملة. بدا لهما الأمر مسليا للوهلة الأولى، عندما وصلا إلى القطعة العشرين اختفت ضحكاتهما ومع القطعة الخامسة والعشرين شرعا في البكاء والتقيؤ، لعلهما شعرا في تلك اللحظة بالحنين إلى السوط. تدخلت عمة وقور ووضعت حدا لهذا التعذيب المحلَّى.
وفي سنة 1963 بلغت السادسة، جاء بن بلة إلى حينا، ليفيي (Leveilley)، الذي سيسمى لاحقا المقرية أو المغارية، لا أعرف لماذا لم يستقر الرأي على تسمية واضحة إلى اليوم. تقع ليفيي على أطراف حسين داي، حي الشهير بن عدودة الذي يستضيفنا في "اللايف".
جاء بن بلة إلى الحومة لتدشين ما سيصبح حي بومعزة. ربما كان الفصل ربيعا، المؤكد أن الجو كان جميلا. بني حي بومعزة لإيواء سكان البيوت القصديرية التي جرفها فيضان واد أوشايح. فالوادي حتى وإن كان "شايح"، جافا، فإنه قد ينبعث من جديد في أي لحظة. وإلى جانب سكان البيوت القصديرية تم إيواء أرامل شهداء فيه أيضا.
أقيم حي بومعزة بين ليفيي وواد أوشايح، على بعد مائة متر من المكسيك، حي قصديري مذهل، سمته الإدارة الاستعمارية، بسخافة وقلة ذوق، المنظر الجميل. حي بومعزة كان في الأصل، حين دشنه بن بلة، مخصصا للإسكان المؤقت، سنتان على أكثر تقدير، لكنه ما زال قائما في سنة 2020 ويكتظ بأجيال متعاقبة انتشرت في المحيط بشكل فوضوي ثم انتقلت إلى بناء بيوت قصديرية أخرى.
أثناء التدشين في سنة 1963، كان الناس يتدافعون ويركضون في مختلف الاتجاهات من أجل رؤية الزعيم. أحد شباب الحي عاش المجد لأيام لأن صورته إلى جانب بن بلة، تصدرت الجريدة في اليوم الموالي، وقد بدا فيها الرئيس بخديه المملوءين وضحكته العريضة مثل ذلك الصبي الجميل، الذي كانت صورته توضع على غطاء صابون كادوم الشهير. لم أر بن بلة، لم أركض، لكنني، ومثل الجميع، شعرت ذلك اليوم بالمرور العابر للسلطة في لحظة براءة وطنية كبرى.
عام بعد ذلك، في سنة 1964 على ما أعتقد، شعر الحي بمرور السلطة بطريقة مختلفة تماما. في المكان الذي يشغله الآن مسجد ليفيي الكبير، أقامت شبيبة جبهة التحرير الوطني. كانوا شبابا تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة، وكانوا يبدون لنا، نحن الأطفال، رجالا ناضجين بالنظر إلى السلطة الكبيرة التي يتمتعون بها.
ترجمة لنص قرئ بالفرنسية على راديو كورونا |
ذات يوم، فقد أحد هؤلاء الصبية الكبار من شبيبة الأفلان ساعته، وقرر بأن اثنين من شباب الحي هما من سرقاها. أحالهما على المساءلة. لقد نالا أشد عقاب: التعليق من القدمين، والجلد بالأحزمة... كادا أن يقضى عليهما. تم تحويلهما إلى المستشفى حيث مكثا عدة أيام.
في الحي، كان الناس يتكلمون عن الحادثة بصوت منخفض، بالهمس تقريبا. أتصور أنه كان هناك كثير من الغضب وقتها وأيضا عبارة "واش نقدرو نديرو" التي مازالت تلازمنا. طويت القضية إلى الأبد. اختفى هؤلاء الصبية الكبار من شبيبة الأفلان عن أنظارنا. بلا شك كان لهم مسار آخر في أماكن أخرى.
اليوم، وبرؤية بَعدية، أقول لنفسي أن حادثة التعذيب "العادية" تلك، أو"التجاوزات" كما نصفها إلى اليوم، كانت لها دلالات أعمق على الصعيد التاريخي من الزيارة الأولى والأخيرة لرئيس جمهورية إلى منطقتنا.
حتى انقلاب 19 جوان 1965 لم يثر أي اكتراث في الحي. كنا مهتمين بشؤوننا، كان أولياؤنا يكدحون. كانوا يريدوننا أن نتعلم، وكانوا يشعرون بطريقة مبهمة أن التعليم خشبة نجاتنا الوحيدة. درسنا بنجاحات متفاوتة. قلة من أبناء جيلي وصولوا إلى الجامعة، وإلى اليوم، برغم أن العلم فقد كثيرا من قيمته لصالح "البزنس"، ينظر إليهم بنوع من الاحترام.
ثم جاءت سنوات بومدين، فترة محيرة. لا شيء كان يحدث في الظاهر رغم كثرة الحديث عن الثورة. كثير من سكان مثلث ليفيي-واد اوشايح- المكسيك كانوا يتابعون خطابات بومدين، تبهرهم قدرته على جزأرة اللغة العربية، وجعلها في متناول العامة، أكثر من محتوى الخطاب. لكن الأكبر سنا منهم كانوا يهزون أكتافهم تعبيرا عن الاستخفاف. لأسباب واقعية وليس لأن بعض الشيوخ من رجال الدين المندفعين كانوا يجرؤون على نقد الاشتراكية الكافرة. بعض هؤلاء الشيوخ كانوا يمرون بالفعل بمجالس خاصة ويقولون كل ما يرونه في بومدين من شرور. لكنهم كانوا يمرون فحسب. ما سيعرف لاحقا بالإسلاموية لن يبدأ في الانتشار إلا مع ظهور الإخوة الأوائل، الإخوان، الإخوان المسلمون.
إذا كان الخطاب السلس لبومدين لم يقنع هؤلاء القدامى فلأنهم عاشوا بما يكفي لكي يعرفوا أن خطابا لا يملأ فراغا أبدا. كانوا يرون الحي ينفجر ديموغرافيا في حين لم يكن بومدين، الذي كانت له رؤيته الخاصة، يعتبر السكن أولوية. كانت بداية التكدس الكبير. وأعتقد أن مأزق السكن هذا الذي أعاق حياة كثيرين، وهدم مشاريع كثيرة، كان من أكبر الإخفاقات، ما أدى إلى ظهور الموجة الإسلاموية.
الموجة التي قد نتحدث عنها في يوم ما
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire